منذ مارس 2020، أمضى السعوديون بعض الوقت في العزل المنزلي بسبب إعلان حالة الإغلاق الرسمي لأماكن العمل، للحد من تفشي فيروس كوفيد-19.

ومع عودتهم إلى العمل على نحو منتظم، والعمل بين الحين والآخر بناءً على نموذج العمل المختلط الذي يُقسّم أيام عملهم بين المنازل والمكاتب، تحولت أماكن جلوسهم في كلٍ من المكاتب والمنازل إلى أماكن عمل مؤقتة، وذلك لضمان سير العمل بأقل قدر ممكن من التعطُّل، في خِضَمّ التحديات والعقبات التي فرضتها الجائحة.

وقد فتح نموذج العمل عن بُعد أمام الشركات أفاقًا وإمكانياتٍ جديدة في تمكين موظفيها من العمل بطريقة مرنة، لا سيما في أوقات إعلان حالة الإغلاق العصيبة حينما لم يكُن اِتِّباع النموذج المختلط ممكنًا، فبعدما كان يُعتقَد في بادئ الأمر أن العمل عن بُعد نموذجًا غير عملي، ويُعرِّض الإنتاجية للتعثُر، بدأت جهات العمل في مختلف القطاعات النظر إليه على أنه نهج مفيد وملائم، وأنه يوفر الوقت والمال، ما أدى إلى بدء مرحلة جديدة في تحوّل بيئة العمل في المملكة العربية السعودية، لا سيما بعد إعلان الشركات العالمية عن التحوّل إلى نموذج العمل عن بُعد، حتى بعد انقضاء الجائحة.

وبالطبع، اقتضى ذلك أيضًا أن تُعدِّل الشركات استراتيجياتها للتوظيف والتعيين، لتجعل نفسها مكان عمل جذاب أمام العاملين الذين أدركوا فوائد العمل بالكامل من المنزل أو العمل وفق النموذج المختلط.

وعلى الرغم من أن العالم يعود ببطء إلى أوضاعه المعتادة، يتبين لنا أننا لن نحتاج إلى العودة بالكامل إلى ما كانت الأوضاع عليه قبل الجائحة، وأننا لن نعود إلى العمل من نفس الأماكن، ويتطلع العديد ممن لديهم القدرة على العمل عن بُعد بصورة كبيرة إلى العمل مستقبلاً في بيئة تقوم على النموذج المختلط، وهذا ما ينبغي للشركات أن تُركّز جهودها عليه حينما تُعِدّ استراتيجيتها للتوظيف والتعيين.

يميل الآن معظم الموظفين إلى العمل عن بُعد، وهو ما يتحوّل إلى أحد المزايا المتوقع توفيرها في بيئة العمل في المستقبل، ولا يعد ذلك مفاجئًا، إذ قد يؤدي العمل من موقعٍ لا يُلبي احتياجاتهم على أفضل وجه إلى حدوث اضطرابات في العديد من جوانب حياة الموظفين.

ومن ثم، فإن أي استراتيجية ذكية للتوظيف والتعيين تضع في اعتبارها الوضع المعتاد الجديد والاحتياجات المتغيرة للموظفين ستُثمِر عن إحساس الموظفين بمشاركتهم بشكل أكبر وتحسُّن رفاهتهم، وزيادة رغبتهم في البقاء بالشركة وتراجع احتمالات إصابتهم بالإجهاد من العمل.

وفي ظل ثقافة العمل المتغيرة اليوم، يتطلب جذب أفضل الكفاءات والمواهب واستبقاؤها الإجابة على سؤال العمل عن بُعد؛ ففي استطلاع للرأي، سألت شركة “غالوب” للتحليلات والاستشارات المتعلقة بالموظفين مجموعة من العاملين عما إذا كانوا سيبحثون عن وظائف جديدة إذا توقفت جهات عملهم عن إتاحة خيارات العمل عن بُعد، وأجابت أغلبية الموظفين الذين يعملون حاليًا من منازلهم فقط، والبالغة نسبتهم 54%، بأنهم سيبحثون على الأرجح عن وظيفة أخرى، بينما أفاد 38% من العاملين بنظام العمل المختلط إجابات مماثلة، فيما فضَّل الموظفون الذين على استعداد للعمل عن بُعد نظام العمل المختلط، لتجنُّب استغراق وقت في التنقُّل وإرضاء رغبتهم في التمتُع بحيز أكبر من الحرية الشخصية، وتحسين رفاهتهم، وتحقيق التوازن بين عملهم وحياتهم الشخصية، بينما يحافظون في الوقت نفسه على اتصالهم بمؤسساتهم.

ويُعَد ذلك مؤشرًا على السبب الذي يدفع الشركات إلى التفكير جديًا في تغيير استراتيجياتها للتوظيف والتعيين، لتُلائم المهنيين الذين يتطلعون إلى تحقيق المرونة، إما بالعمل بالكامل من المنزل أو اختيار العمل وفق النموذج المختلط، فيما يمثل عدم إتاحة المؤسسة لترتيبات العمل المرنة خطرًا كبيرًا يُداهم جهودها في تعيين الموظفين ومشاركتهم وأداءهم ورفاهتهم، واستراتيجياتها لاستبقائهم.

ويمكن أن يُسهِّل تأقلم الشركات مع سوق الموظفين الجديدة السُبُل أمامها لاستقطاب العاملين الماهرين من أرجاء العالم، فقد سهَّلت ترتيبات العمل المرنة انتقال المهارات عبر مناطق وقارات العالم، وبينما قد يتسبب ذلك في احتدام التنافس حول العالم على استقطاب ذوي المهارات، فإن ذلك يُعَد فرصة إيجابية للشركات التي تعمل على توسيع نطاق القوى العاملة لديها بتعيين أفراد ماهرين ينتمون إلى مناطق وثقافات أخرى، ويمكن لأي شركة تسعى إلى بناء قوى عاملة مفعمة بالنشاط والحيوية وقادرة على مواجهة أي تحديات، والحفاظ على تلك العمالة، أن تستفيد من مزيج المهارات والتنوع الثقافي الذي توفره تلك الفرصة.

ويُساعد نظام العمل المختلط الموظفين على الاستفادة إلى أقصى حد ممكن من يومهم، مع ضمان بقائهم على اتصال بزملائهم في العمل ومؤسساتهم، وتُعتبَر مرونة العمل الخيار الأمثل لإشراك الموظفين والحد من تعرُّضهم للإجهاد، ومن ناحية أخرى، تتفاوت تفضيلات الموظفين ومدى تناسُب جداول المواعيد في نظام العمل المختلط حسب المؤسسة، وفريق العمل، والأدوار الوظيفية، والأفراد العاملين، فلا يوجد نموذج مُوحد يناسب جميع الحالات، وبالتالي، من المهم أن يجري قادة فرق العمل تقييمًا لتحديد المبادئ التوجيهية الأنسب للفرق التابعة لهم، في ضوء العمل الذي يؤدونه والدعم الذي يحتاجونه وثقافة الفريق.